• 2022-12-20

المنهج النبوي في المحافظة على الصحة العامة

بروتوكول وآداب تناول الطعام

عندما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لتناول الطعام مرة وجد أن يد الصحابي الغلام (عمر بن أبي سلمة) رضي الله عنه تطيش في الإناء، فقال صلى الله عليه وسلم بكل هدوء ومن غير غضب أو زجْر بهدف تعليم الغلام وتعليم الأمة واحدة من أهم آداب تناول الطعام وخاصة عندما تكون وجبة الطعام جماعية، فقال في الحديث النبوي الشريف المتفَق على صحته والذي يروى عن الصحابي عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما نفسه. قال: كنتُ غلامًا في حِجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصُّحْفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام، سَمِّ اللهَ، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك"، فما زالت تلك طُعْمتي بعدُ. متفق عليه.
نحسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحاول أن يوصل لنا وللأمة عن طريق هذا الصحابي الجليل بعض السلوكيات المتعلقة بآداب الطعام وذلك من خلال ما يُعرَف بالتعليم الجماعي، والتعليم بالتواتر، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذه المعلومة التي سيقولها لهذا الصبي سوف يبلغها لمن خلفه من البشر لتصبح قاعدة من القواعد المهمة في بروتوكولات وآداب تناول الطعام، على الرغم من ذلك المجتمع البسيط الذي كانوا يعيشون فيه.
ويعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث النبوي التربوي ثلاثة آداب متعلقة بالطعام. ونتعلم من خلال هذا الحديث أيضًا أمراً رابعاً وهو كيفية تربية الأطفال، ولنتحدث عن سلوكيات وآداب المائدة، وهي بالكيفية التالية حسب ما جاء في الحديث النبوي الشريف:
أولاً: التسمية باسم الله جل جلاله: ربما نعود هنا إلى موضوع العقيدة مرة أخرى، فالإنسان المسلم مرتبط بكل حالاته وحياته بالله سبحانه وتعالى، فكل عمل يقوم به سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، يجب أن يعمله لله وبنية صادقة لله وليس لأحد من البشر. وقد روى أَبِو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ. أَوْ قَالَ: أَقْطَعُ"، حديث حسن رواه أحمد.
وربما يكون القصد من ذِكْر اسم الله تعالى هو نسبة الفضل لصاحب الفضل وهو الله سبحانه وتعالى، فهو الخالق الذي خلق كل شيء لأجل الإنسان، فالذكر يعني الشكر الدائم الذي لانريد له أن ينقطع، وهو رابط قوي يربط به الإنسان نفسه بهذا الرب الجبار الكبير المتعال، فنحن جزء صغير من خلقه وجزء وليس كل، لذلك فإن هذا الذكر يرتقي بنا إلى مصاف العبودية التي تقدم الشكر والولاء لخالقها الذي لايحتاج إلينا بقدر حاجتنا نحن إليه.
ثانيًا: الأكل باستخدام اليد اليمنى: لماذا استخدام اليد اليمنى عند الأكل؟ ولماذا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم الصحابي الصغير هذا المفهوم لتبقى هذه المنهجية سارية في أمته إلى قيام الساعة؟ في الحقيقة إنه حسب علمي المتواضع لم أجد تفسيرًا يرضيني حتى أُورِدُه، فبعض العلماء ذكر أن تناول الطعام باليد اليمنى يسهل من عملية الهضم لوجود غدد ما، وبعضهم تكلم عن الطاقة الإيجابية والطاقة السلبية، إلا أن كل هذا الكلام لايبنى على دلائل علمية، لذلك يصعب اتِّباعه أو حتى الاقتناع به، غير أن إيماننا باتِّباع أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم تكفينا، لذلك نتبعه حتى وإنْ لم نفهم اليوم خلفيات تلك الأوامر.
ولكن ما نؤمن به هو إن الرسول صلى عليه وسلم خصَّص اليد اليمنى للأعمال الإيجابية مثل تناول الطعام، وارتداء الملابس ودخول المسجد والمصافحة وما إلى ذلك، فيما يستحَب التياسر عند الخروج من المسجد ودخول الخلاء أي الحمام والاستنجاء فيه، وربما هذا دليل التخصيص والنظام والنظافة، وذلك حتى لا يختلط الطعام الذي يتناوله المرء باليمين بفضلاته التي يستخدم فيها اليد اليسرى للتنظيف والتخلص منها.
وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ، وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى" صحَّحه الألباني. وروى مسلم من حديث سلمان رضي الله عنه قال: "نَهَانَا النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِيَمِينِهِ"، وكذلك روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ".
ثالثًا: تناوَل الطعام مما يليك أي من الطعام القريب منك: وهذا أدب راقٍ جدًا، وذلك لأن منظرك وأنت تأخذ الطعام من أمام غيرك أمر غير لائق وبشع، ولكن ماذا يكون وضعنا لو كان الطعام منوعاً ومختلف الألوان والأشكال؟
في هذه الحالة فإنه من باب الأدب النبوي أن تطلب من الرجل الجالس بقرب تلك النوعية التي ترغب فيها أن يناولك قدراً منها.
مثل هذه الأوضاع عادة ما تصادفنا عند تناول الطعام من الصواني المشترَكة، أي التي يتحلق حولها عدة أفراد يتراوح عددهم بين خمسة أفراد وعشرة، ولكن في بعض الأحيان أو في بعض المناسبات توضع الأطعمة على طاولات خاصة فيما يعرف بـ(البوفيه) فيأتي الأفراد لينتقوا منها ما يرغبون ووضعه في أوان وصحون خاصة، فمن باب الأدب هنا ألا نتسابق ونتصارع عند مائدة الطعام الطاولات وإنما ننتظر حتى تتاح لنا الفرصة ليحل دورنا وننتقي ما نشاء من أطعمة بأنواعها المختلفة، وهذه آداب أخرى لا نريد التوسع في الكلام حولها.
رابعًا: تربية الطفل على آداب الطعام والآداب العامة: مما يلاحَظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم وجه نظر الصحابي الصغير إلى بعض الآداب عندما لاحظ أخطاء في سلوكياته دون أنْ ينهره ولم يغضب عليه، وإنما حاول تعليمه بأسلوب هادىء ومريح، وكلمة "يا غلام" توضح أن هذا الصحابي كان في سن صغير، ولكنه في السن الذي يمكن فيه أن يفقه الكلام، لذلك بادره الرسول بهذه السلوكيات.
لذا نجد أن من الخطأ أن نهمل تربية الأبناء وتعليمهم منذ نعومة أظافرهم على المبادىء الحياتية الأساسية التي بصَّرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه التعليمات تبقى محفورة في الذهن ولا تَمَّحي مع الزمن، لذلك ختم هذا الصحابي بقوله "فما زالت تلك طُعمتي بعد"، وهذا يعني ببساطة أن هذه السلوكيات قد ترسخت في عقله حتى نهاية حياته.